جدل بين الأمان والحرية.. الهوية الرقمية تثير عاصفة احتجاجية في بريطانيا

جدل بين الأمان والحرية.. الهوية الرقمية تثير عاصفة احتجاجية في بريطانيا
احتجاجات في بريطانيا على مشروع الهوية

في قلب العاصمة البريطانية لندن، تحولت شوارع وسط المدينة يوم السبت إلى ساحة احتجاج كبيرة، بعدما خرج آلاف المتظاهرين رفضاً لخطة الحكومة بفرض نظام هوية رقمية إلزامية بحلول عام 2029.

اللافت في هذه المظاهرات لم يكن فقط حجم المشاركة، بل تنوع المشاركين بين نشطاء مدنيين وسياسيين من أحزاب مختلفة، تجمعهم مخاوف واحدة تتمثل في أن تتحول الهوية الرقمية من وسيلة لتسهيل الحياة إلى أداة لمراقبة المواطنين والتحكم في حرياتهم.

مسيرة ضد نظام المراقبة الشامل

انطلقت المسيرات من ساحة ماربل آرتش، واتجهت نحو شارع وايتهول القريب من مقر رئاسة الوزراء، وسط هتافات تطالب بالحفاظ على الخصوصية الشخصية وترفض ما وصفه المحتجون بنظام المراقبة الشامل.

ورُفعت لافتات تحمل شعارات مثل "بريطانيا لا تقول: أرني أوراقك"، و"الحرية ليست رقم هوية"، وقد تسبب الحشد الضخم في شلل جزئي لحركة المرور في قلب العاصمة، في حين دعت شرطة العاصمة المتظاهرين إلى الالتزام بالمسار المحدد والبقاء في الجانب الأيسر من الطريق.

حركة "Mass Non-Compliance"، وهي الجهة المنظمة للتظاهرة، نشرت بياناً حاد اللهجة على موقعها الإلكتروني جاء فيه: "إذا قبلت بالهوية الرقمية الآن، فقد تكون هذه آخر مرة تملك فيها خياراً حقيقياً"، وأضافت أن النظام "يُسوّق على أنه وسيلة للأمان، لكنه في جوهره أداة للسيطرة".

مكافحة الهجرة غير الشرعية وتسهيل الخدمات

من جانبها، دافعت الحكومة البريطانية عن المشروع الذي أعلنه رئيس الوزراء في سبتمبر الماضي، مؤكدة أنه جزء من جهود مكافحة الهجرة غير الشرعية وتبسيط الإجراءات الإدارية للمواطنين والمقيمين.

وتقول الحكومة إن الهوية الرقمية ستسمح بالوصول إلى الخدمات الحكومية دون الحاجة لإثبات العنوان عبر فواتير المرافق، وستُستخدم أيضاً شرطاً للتوظيف في المملكة المتحدة، ضمن آليات التحقق من الوضع القانوني للعاملين.

وأشار بيان حكومي إلى أن التجارب المماثلة في دول مثل أستراليا والدنمارك وإستونيا والهند أظهرت نتائج اقتصادية وأمنية إيجابية، موضحاً أن الهند وفّرت أكثر من عشرة مليارات دولار سنوياً بفضل تقليص الاحتيال في برامج الدعم الاجتماعي عبر نظام "آدهار" للهوية الرقمية.

وفي رد رسمي على العريضة الشعبية، أكدت الحكومة البريطانية أن "امتلاك الهوية الرقمية لن يكون إلزامياً تحت طائلة القانون، ولن يُسمح للشرطة بطلبها أثناء التفتيش أو التحقق من الهوية"، في محاولة لتهدئة المخاوف العامة.

معارضة سياسية وقلق متزايد على الخصوصية

لكن هذه التطمينات لم تكن كافية لطمأنة المنتقدين، فقد حذر السياسي المحافظ المخضرم ديفيد ديفيس من أن النظام الجديد "قد يبدو حلاً عصرياً وفعالاً، لكنه في الحقيقة تهديد لخصوصية وحرية الشعب البريطاني".

أما كيمي بادنوك، زعيمة حزب المحافظين، فوصفت المشروع بأنه "حيلة لن توقف قوارب المهاجرين"، معتبرة أن الحكومة تستخدم ملف الهجرة لتبرير مراقبة المواطنين.

من جانبه، أعلن زعيم حزب الإصلاح البريطاني نايجل فاراج معارضته القاطعة للنظام، في حين أكد حزب الديمقراطيين الأحرار أنه لن يدعم أي مشروع "يجبر الناس على تسليم بياناتهم الخاصة لممارسة حياتهم اليومية".

ويعكس هذا الرفض الحزبي الواسع حالة انقسام سياسي ومجتمعي متزايد داخل بريطانيا حول العلاقة بين الأمن والحرية، وهي معادلة تثير جدلاً منذ قانون مكافحة الإرهاب لعام 2005 وحتى اليوم.

أصوات من الشارع: الخوف من “التحكم الرقمي"

بين صفوف المتظاهرين، تتردد مخاوف عميقة تتجاوز مجرد الخصوصية التقنية.

يقول أحد المشاركين في المسيرة، وهو موظف في قطاع التكنولوجيا، إن "الهوية الرقمية قد تبدأ كتطبيق مريح على الهاتف، لكنها قد تتحول مع الوقت إلى أداة لمعاقبة الناس على آرائهم أو سلوكهم الاقتصادي".

وتحذر ناشطة في حركة الحقوق الرقمية من أن "الأنظمة القائمة على قواعد بيانات مركزية تشكل هدفاً مغرياً للقراصنة، ويمكن أن تتسبب أي ثغرة في تسريب بيانات ملايين المواطنين".

وبالفعل، تشهد المملكة المتحدة ارتفاعاً في الهجمات السيبرانية، إذ رصدت وكالة الأمن الإلكتروني البريطانية زيادة بنسبة 38 في المئة في محاولات الاختراق خلال عام 2025 وحده، ويرى الخبراء أن بناء نظام هوية وطني متصل بشبكات حكومية وتجارية قد يزيد من هذه المخاطر.

عريضة الرفض: أكثر من 2.8 مليون توقيع

الاعتراض الشعبي في بريطانيا على المشروع لم يقتصر على الشارع، فقد جمعت العريضة الرسمية المعارضة لنظام الهوية الرقمية أكثر من 2.8 مليون توقيع حتى منتصف أكتوبر، ما يجعلها واحدة من أكبر الحملات الإلكترونية في تاريخ البرلمان البريطاني.

ويطالب الموقعون الحكومة بالتخلي عن أي خطط تجعل الهوية الرقمية شرطاً للحصول على الوظائف أو الخدمات الأساسية، مؤكدين أن هذه الخطوة تمهد لما وصفوه بـ"نظام نقاط اجتماعية" يشبه النموذج الصيني في المراقبة.

جدل قانوني وحقوقي

قانونيون ومنظمات حقوقية بريطانية، مثل مؤسسة "ليبرتي" و"بيغ براذر ووتش"، حذروا من تداعيات تشريع نظام الهوية الرقمية على الحقوق المدنية، خاصة في ظل غياب قانون شامل لحماية البيانات الرقمية يعادل اللائحة الأوروبية العامة لحماية البيانات (GDPR).

وتقول منظمة "ليبرتي" في بيانها إن "التاريخ البريطاني حافل بمقاومة أي محاولات لجعل المواطنين يقدمون هويتهم للدولة دون سبب قانوني وجيه"، مشيرة إلى أن الهوية الرقمية "قد تقوض مبدأ البراءة حتى تثبت الإدانة، إذا تم استخدامها للتحقق من النشاط الاجتماعي أو المالي للمواطنين".

كما حذرت المفوضية البريطانية للمعلومات من مخاطر "الربط بين البيانات الصحية والمالية والتعليمية في نظام واحد"، مؤكدة ضرورة ضمان الفصل بين السلطات التي يمكنها الوصول إلى هذه المعلومات.

البعد الدولي: بين التحديث والمراقبة

تأتي هذه الخطوة البريطانية في وقت يشهد فيه العالم توجهاً متزايداً نحو التحول الرقمي في إدارة الهوية، فـ"الاتحاد الأوروبي" يستعد لإطلاق "محفظة الهوية الرقمية" بحلول عام 2026، والتي ستتيح للمواطنين الوصول إلى الخدمات عبر منصة موحدة.

وفي المقابل، أثارت التجارب في بعض الدول مخاوف من توسع سلطة الدولة على حساب حرية الأفراد، ففي الهند مثلاً، ورغم النجاح المالي لنظام الهوية، واجهت الحكومة انتقادات واسعة بعد اكتشاف تسريبات لبيانات ملايين المواطنين.

وتخشى منظمات بريطانية أن تحذو لندن المسار ذاته، خاصة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي واستقلالها عن نظام الحماية الرقمي الأوروبي.

أزمة ثقة متبادلة

يرى محللون أن الأزمة تتجاوز الجدل التقني إلى أزمة ثقة بين المواطنين والدولة، فبعد سنوات من سياسات التقشف وتسريبات البيانات الحكومية السابقة، أصبح جزء كبير من البريطانيين يشكك في قدرة الحكومة على حماية بياناتهم الشخصية.

ويرى آخرون أن المشروع يمثل خطوة في اتجاه أوسع لرقمنة البيروقراطية البريطانية المتقادمة، لكنها تحتاج إلى "ضمانات قوية ومساءلة شفافة" حتى لا تتحول إلى أداة مراقبة مستترة.

نقاش مفتوح على مستقبل الخصوصية

مع تصاعد الجدل وازدياد الضغط الشعبي، تبدو الحكومة البريطانية أمام خيارين صعبين: إما التراجع عن إلزامية الهوية الرقمية، أو المضي في المشروع مع وضع ضوابط قانونية صارمة لحماية الخصوصية.

وفي الحالتين، تفتح الأزمة الحالية نقاشاً أوسع حول معنى المواطنة في العصر الرقمي، وحول الحدود الدقيقة بين الأمن الوطني وحرية الفرد.

فبينما ترى الحكومة في الهوية الرقمية رمزاً للتحديث، يراها كثير من البريطانيين رمزاً لاحتمال فقدان آخر معاقل الخصوصية في عالم تتسع فيه عيون المراقبة أكثر كل يوم.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية